فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لًابِيهِ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلًا من {إبراهيم} بدلَ اشتمال كما تقدَّم في {إِذِ انتبذت} [مريم: 16] وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} نحو: رأيت زيدًا- ونِعْم الرجلُ- أخاك. وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلَّقَ {إذ} ب {كان} أو ب {صِدِّيقًا نبيًَّا}، أي: كان جامعًا لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ. ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه {صِدِّيقًا نبيًَّا} أو معناه.
قال الشيخ: الإِعرابُ الأولُ- يعني البدليةَ- يقتضي تصرُّفَ {إذ} وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ {كان} في الظرف وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العاملُ مركبًا من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوبًا للفظٍ واحدٍ. ولا جائز أن يكونَ معمولًا ل {صِدِّيقًا} لأنه قد وُصِفَ، إلا عند الكوفيين. ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولًا ل {نبيًَّا} لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة.
قلت: العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله أي: كان جامعًا لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}.
وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر: {يا أبَتِ} وفي مصحف عبد الله {وا أبتِ} ب {وا} التي للنُّدْبة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}.
الصِذِّيق الكثير الصدق، الذي لا يمازج صِدْقَه شوبٌ.
ويقال هو الصادق في أقواله وأعماله وأحواله.
ويقال الصِدِّيق لا يناقِضُ سِرُّهُ عَلَنَه.
ويقال هو الذي لا يشهد غيرَ الله مُثْبِتًَا ولا نافيًا.
ويقال هو المستجيب لِمَا يُطَالَب به جملةً وتفصيلًا.
ويقال هو الواقفُ مع اللَّهِ في عموم الأوقات على حدِّ الصدق.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}.
دلَّت الآيةُ على استحقاقِ المعبودِ الوصفَ بالسمع والبصرِ على الكمال دون نُقْصانٍ فيه، وكذلك القول في القدرة على الضَّرِّ والنفع.
وإذا رجع العبدُ إلى التحقيق عَلِمَ أن كلَّ الخَلْق لا تَصْلُحُ قدرةُ واحدٍ منهم للإبداع والإحداث، فمن عَلََّق قلبه بمخلوق، وأو تَوَهَّمَ شظية منه من النفي والإثبات فَقَدْ ضَاهَى عَبَدةَ الأصنام.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}.
أَمَرَه باتباعه لمَّا ترجح عليه جانبُه في كَوْنِ الحقِّ معه- وإِنْ كان أكبرَ منه سِنًَّا، وبيَّن أن الخلاص في اتباع أهل الحقِّ، وأَنَّ الهلاكَ في الابتداع والتطوع في مغاليط الطرق.
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}.
بيَّن أَنَّ العلةَ في منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فَبَانَ أنه لا ينبغي أَنْ تكون طاعةٌ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ بحالٍ.
ويقال أساسُ الدَّين هِجْرَانُ أَرباب العصيان.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}.
لم يغادِرْ الخليل شيئًا من الشفقة على أبيه، ولم ينفعه جميل وعظه، ولم تنجع فيه كثْرَةُ نُصْحه؛ فإِنَّ مَنْ اَقْصَتْه سوابِقٌ التقدير لم تُخَلِّصْه لواحقُ التدبير. اهـ.

.تفسير الآيات (46- 50):

قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما وصل إلى هذا الحد من البيان، كان كأنه قيل: ماذا كان جوابه؟ فقيل: {قال} مقابلًا لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل، منكرًا عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته: {أراغب} قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال: {أنت} وقال: {عن ءالهتي} بإضافتها إلى نفسه فقط، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء: تركه عمدًا.
ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال: {يا إبراهيم} ثم استأنف قوله مقسمًا: {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي لأقتلنك، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته {واهجرني} أي ابعد عني {مليًا} أي زمانًا طويلًا لأجل ما صدر منك هذا الكلام، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى، ويقاسي من قومه من العناء، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا- بأعظم آبائه وأقربهم به شبهًا {قال} أي إبراهيم عليه السلام مقابلًا لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم: {سلام عليك} أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله: {سأستغفر} بوعد لا خلف فيه {لك ربي} أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله: {إني أخاف أن يمسك}.
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال: {إنه كان بي} أي في جميع أحوالي {حفيًّا} أي مبالغًا في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال: {وأعتزلكم} أي جميعًا بترك بلادكم؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلًا للمناداة في الشدائد بقوله: {وما تدعون} أي تعبدون {من دون الله} الذي له الكمال كله، فمن أقبل عليه وحده أصاب، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم {وأدعوا} أي أعبد {ربي} وحده لاستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالًا لربه وهضمًا لنفسه: {عسى ألاّ أكون} أي كونًا ثابتًا كأنه احترز بذلك عما لابد للأولياء منه في الدنيا من البلاء {بدعاء ربي} المتفرد بالإحسان إلي {شقيًا} كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم.
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى، عزم على نشر شقة النوى مختارًا للغربة في البلاد على غربة الأضداد، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ** ولكنها والله في عدم الشكل

وإني غريب بين بست وأهلها ** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

وحقق ما عزم عليه؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال: {فلما اعتزلهم} أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة {وما يعبدون} أي على الاستمرار {من دون الله} الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره {وهبنا} أي على ما لنا من العظمة {له} كما هو الشأن في كل كن ترك شيئًا لله {إسحاق} ولدًا له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله {ويعقوب} ولدًا لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعًا إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأخروه بالذكر جاعلًا له أصلًا برأسه؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال: {وكلًا} أي منهما {جعلنا نبيًا} عالي المقدار، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبيًا {ووهبنا لهم} كلهم {من رحمتنا} أي شيئًا عظيمًا جدًا، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة {وجعلنا لهم} بما لنا من العظمة {لسان صدق عليًّا} أي ذكرًا صادقًا رفيع القدر جدًا يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار، ومر الليل والنهار، وعبر باللسان عما يوجد به، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانيًا بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولًا، وأشار إليها بقوله في {سبحان} {وقل رب أدخلني مدخل صدق} [الإسراء: 80] الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}.
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد، وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ، وأورد كل ذلك مقرونًا باللطف والرفق، قابله أبوه بجواب يضاد ذلك، فقابل حجته بالتقليد، فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم} فأصر على ادعاء إلهيتها جهلًا وتقليدًا وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم، وقابل رفقه في قوله: {يا أبت} [مريم: 44] بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال: {يا إِبْرَاهِيمَ} وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة، أما قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم} فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول.
وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها، وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب فاسد غير مبني على دليل وشبهة، ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه، أما قوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيًّا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الرجم هاهنا قولان: الأول: أنه الرجم باللسان، وهو الشتم والذم، ومنه قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] أي بالشتم، ومنه الرجيم، أي المرمي باللعن، قال مجاهد: الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم.
والثاني: أنه الرجم باليد، وعلى هذا التقدير ذكروا وجوهًا: أحدها: لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك.
وثانيها: لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني.
وثالثها: عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش.
ورابعها: قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعًا، ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى: {واهجرنى مَلِيًّا} واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى، فإن قيل: أفما يدل قوله تعالى: {واهجرنى مَلِيًّا} على أن المراد به الرجم بالشتم؟ قلنا: لا، وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هربًا من ذلك فهو في معنى قوله: {واهجرنى مَلِيًّا}.
المسألة الثانية:
في قوله تعالى: {واهجرنى مَلِيًّا} قولان: أحدهما: المراد واهجرني بالقول.
والثاني: بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر.
المسألة الثالثة:
في قوله: {مَلِيًّا} قولان: الأول: مليًا أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد.
والثاني: مليًا بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقًا له مضطلعًا به.
المسألة الرابعة:
عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك، أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك، ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين.
أحدهما: أنه وعده التباعد منه، وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الانقياد لذلك الأمر وقوله: {سلام عَلَيْكَ} توادع ومتاركة كقوله تعالى: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} [القصص: 55]، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63] وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان، ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار، ثم إنه لما ودع أباه بقوله: {سلام عَلَيْكَ} ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء، وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز، فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز، إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {سلام عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} وقوله: {واغفر لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} [الشعراء: 86] وأما أن أباه كان كافرًا فذاك بنص القرآن وبالإجماع، وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين.